
تصويريْ~

لقطة من دفتر ذكِرَياتيْ
قصة قصيرة..بقلمي..
نهاية صمود
(الجزء الأول)
حين يكون الإنسان في حاجة ماسة إلى تغيير نمط حياته..وبدأ حياة جديدة.. وحين تكون هذه البداية خارج إطار مجتمعه الشبه مغلق..قد يكون القرار أشبه بمعركة صارمة بين العادات والتقاليد وبين الثقافة ومستوى التفكير.. اجتمع قلبه وعقله على اختيار تلك الإنسانة..المثقفة , البسيطة , قد يكون مجتمعها مقارنة بمجتمع ذلك الشاب كتنافر أقطاب المغناطيس أو كخطان متوازيان لا يتقاطعان. لكنه وقف صامداً أمام كل محاولات التخريب بينه وبينها حتى باتت تصبح فاشلة.. لم تبدوا أسرته راضية بزواجهما قطعاً , إلى أن حصلت القطيعة بينه وبين والديه , لم يستسلم بل وحاول مرات عديدة أرضائهما وإقناعهما بوجهة نظره لكنهما لم يديروا له ظهراً.. بل واستمرا بالهجران , أصبح من الصعب إرضاء والديه وإخوانه وحتى زوجته التي كانت تحلم بزواج كالعسل والسمن.. كم تمنت أن تنام يوماً دون أن يوقظها صراخ الضمير وكأنها سبب ضياع زوجها من أهله , كانت تأمل رؤيته بابتسامة واضحة صادقة من قلبه ليس كما اعتاد أن يرسمها بتصنعّ!.. فقط ليخفي علامات الألم بداخله!. حتى الطفل الذي خبأته بأحشائها كان له الحق بأن يعي على هذه الدنيا وأفراد أسرته مبتهجين حوله.. ليشعر بقيمة الحياة منذ ولادتها.. لم تتفوه الزوجة بحرف واحد عما بجوفها حتى لا يزداد الزوج خوفاً من مهاجمة مجتمعه الذي لازال يعتقد أن اختلاف العرق يعني تشويه سمعة وانحطاط شرف! واختراق لقانون العادات! لكن الحب سلطان ولذلك فهو فوق القانون!..علم الزوج بحمل زوجته وكادت تقتله الفرحة .. فقد تكون ولادة الطفل ولادة حياة جديدة ليزاح الهم عنهما.. وتطوى الأحزان..وترمى ذكريات الماضي تحت سقف النسيان..
ولدت الطفلة.. فكانت سعادتهما لا تصفها السعادة ذاتها .... بل وكانت أكبر هدية مقابل صبرهما.. شعر الزوجين وكأنهما هم من ولدوا وليست طفلتهم الصغيرة.. قررا تسميتها باسم {صمود} فهذه الطفلة الجميلة كانت نتيجة صمودهما حقاً.. أخذت هذه الطفلة تكبر وتكبر.. حتى أصبحت تدرك أنها مصدر سعادة والديها وأملهما الوحيد.
...
{دوام الحال من المحالْ}..دخل الشيطان بينهما.. غرس الشك في نفوسهما.. وخلق سنة من المشاحنات كما لو أنهما نسيا سنين من التضحيات من أجل استمرارية هذا الحب.. أصبحت الزوجة تفسر غياب زوجها بالخيانة واللامبالاة بأمور الأسرة.. لكن برود الزوج وهدوءه لم يخفف من هذا النزاع بل جعله يبدو في صورة المذنب والراضي بما تتفوه به زوجته.. حتى سلبت ثقة الطرفين.. وأصبح المنزل في حالة ركود وكآبة غير معهودة.
ففي صباح أحد الأيام.. كان البعض منهمك بعمله والبعض الآخر نيام.. استيقظ الجيران على صراخ وأصوات تحطيم من منزل جارهم.. هرعوا إلى المنزل..
طَرِقَ الباب..رُن الجرس.. لكن لا حياة لمن تنادي!
لم يكن لديهم خيار سوى كسر الباب.. وجدوا كل شيء محطم.. لم تسلم قطعة من يدها.. كانت الطفلة {صمود} في غاية الذعر وهي تنظر إلى أمها التي أصبحت كالوحش الهائج أمامها.. تساءلت ما الذي جعلها تتصرف هكذا..هل أغضبتها دون أن تشعر؟ , أم هل هي أخطأت التصرف؟.. اتصل الجار بجاره وأخبره بكل ما حدث.. صُدم الزوج.. ما الذي حل بعقل تلك المرأة.. عاد إلى منزله فوراً.. واحتضن فتاته ليهدئها ويدخل السكينة في قلبها.. لم يكلم زوجته ولم يفكر في ذلك حتى بدأت هي بالتحدث كما لو أن شيئاً لم يحدث.. ضحكت.. وألقت الطرائف والدعابات.. لم يتسرع الزوج في تفسير سلوك زوجته الغير طبيعي حتى تمادى الحال ولم تكتفي بالتكسير والتحطيم فقط! بل وحتى ملابسه وممتلكاته الشخصية أصبحت تُحْرَق كل مرة.. أخذها إلى طبيب نفسي.. وأخبرته النتائج أنها ضحية انفصام في الشخصية.. كما أخبره الطبيب أن إنفرادها مع ابنتها ذات العشرة ربيعاً خطراً كبيرا َعليها!.. فلا تُسْتَبْعد من هذه الحالة القتل!.. على الفور أحْضَر خادمة لعلها تفي بالغرض وتكون حلاً لهذه المشكلة.. لكن ذلك لم يخفف من وطأة الأمر.. بل وزادت شكوك الزوجة المريضة.. وأصبحت تظن أن هذه الخادمة تريد سرقة زوجها منها.. حتى أتى اليوم الذي انهالت عليها ضرباً مبرحاً.. ونقلت الضحية إلى المشفى والأخرى زُجَت في السجن ..بعد مضي يوماً كاملاً تم الإعفاء عنها استناداً للتقرير الطبي من طبيبها المعالج.. ومن السجن إلى المشفى لتلقي العلاج.. أصيب الزوج بحالة من اليأس فحالته المادية لا تسمح بوجود خادمة لأبنته وميزانية لعلاج زوجته.. لم يكن أمامه خياراً..هاتفَ أخيه وأخبره عن ضائقته المالية وكم هو في حاجة إليه.. غضب الأخ غضباً شديداً على حال أخيه وعزم على
أخذ الطفلة منه.. تردد الأخ في البداية لشدة تعلقه بابنته فالقلب له جواب والعقل له جواباً آخر...أختار الاثنان معاً.. فلو كان يحبها
حقاً فليبعدها عما هو خطراً عليها.. واتفق قلبه وعقله للمرة الثانية.
...
عند وصولها منزل جدها.. كان قلبها يخفق بشدة.. كانت مشاعرها مختلطة بفرح وحزن..ببهجة وألم..لم تتمكن من تحديد حقيقة تلك المشاعر.. شغلتها تساؤلات كثيرة لم تستطع الإجابة عليها.. توقفت السيارة.. أخذت نفساً عميقاً.. فتحت الباب وكان أول من استقبلها رجل بلحية بيضاء وثوب أبيض حتى أنه بدا كشخص في غاية الصفاء والنقاء.. ابتسامته بعثت الراحة في نفسها وكأنه يعلم مدى قلقها.. أخبرها العم (عادل) أن هذا الشخص هو جدها (سليمان) وهمس لها : قبلي رأسه..ارتبكت.. وأخذت تقفز ببراءة لتصل إلى رأسه..ضحك الجد وأخفض رأسه لها.. هذه أول مرة تقبل فيها رأساً بعد والدها.. دخلت إلى منزل جدها.. كان كبيراً وواسعاً.. تساءلت ترى كم عدد أفراد هذا المنزل؟..عشرة؟.. عشرين؟.. أقبل عليها طفل صغير بدا بنفس عمرها ووقف أمامها: أنت صمود؟..أومأت برأسها.. أنا أبن عمك (محمد)..ابتسم لها ببراءة ثم أخذ بيدها ليعرفها على بقية أفراد الأسرة.. كان الجميع مصدر ترحيب لها.. حتى جاءت جدتها (أمينة) الوحيدة التي رفضت فكرة وجود هذه الطفلة وأصرت على عدم مقابلتها.. فهي تذكرها بوالدها الذي خرج يوماً عن سلطانها.. لم تأبه الجدة بهذه الفتاة ولم تعطي لها بالاً.. هي ليست كذلك تماماً..بل تتصنع هذا على الرغم من أنها أحبتها من الداخل لكنها تظن أن إظهار ذلك قد يحطم كبريائها و يقلل من شأنها!.. أخيراً أصبحت تمتلك غرفة أحلامها التي لطالما وعدها والدها بها حين تتحسن ظروفه المادية.. وضعت الخادمة حقيبتها وأخبرتها بأنها ستنظمها غدا.. ابتسمت لها صمود وارتمت على سريرها..وبلا شعور أخذها التعب والإرهاق ونامت دون أن تشعر بصوت الباب الذي يفتح مراراً وتكراراً.. من أعمام..وعمات..وأطفال قد يقتلهم الفضول إن لم يروا تلك الغريبة التي ستشاركهم اللعب قريباً..
استيقظت من النوم وهي تحاول التركيز..تتساءل ترى من هذه الإنسانة الواقفة أمامها؟.. المفاجأة!..جدتها تبتسم.. تخبرها بأنها ستنتظرها على الإفطار.. ذهلت صغيرتها!.. ما الذي تغير؟..بالأمس لم تدير لها ظهراً..ولم ترى أسنانها لشدة عبوسها..
الجواب كان العم عادل..فهو من كان وراء اقتناع الجدة في أمر حفيدتها الصغيرة.
...
(الجزء الثالث)
كبرت الطفلة.. وأكملت سن الرابعة عشر.. أصبحت فتاة جميلة ومصدر غيرة الكل.. مع أنها عاشت بينهم إلا أنها لم تكتسب طريقتهم وأسلوبهم في العيش.. فهم أناس محافظين جداً.. أفكارهم ضعيفة نوعاً ما.. كان للكبر والتعالي مكاناً بينهم.. فنسبهم أغلى شيء يملكونه.. قد تكون هي فخورة بذلك لكنها لا تتفاخر به أمام صديقاتها أو أمام أي شخص كان.. ماذا نتوقع من مجتمع محافظ؟.. لدرجة أن الخطأ أحياناً كالذنب الذي لا يغتفر..وكأنهم لا يعلمون أن الوقوع في الأخطاء أفضل وسيلة للتعلم..
أحبت ابن عمها (محمد).. وهو أيضاً.. ابتساماته وإيماءاته كانت تدل على مبادلته لها بنفس الشعور.. أدركت أخته الكبيرة ذلك الأمر.. وأصبحت كلما أرادت شيئاً منه تخبره أنه لـ(صمود) وفوراً يحضر لها ما تريد..براءة لا يفقهها إلا من أحب في هذا السن..
علمت والدة محمد بأمر ابنها العاشق الصغير..وبلا تردد.. تحدثت إلى صمود وأخبرتها إن ما تفعله سخافة وتفاهة!..وإن تمادى الأمر ستخبر عمها على الفور..
منذ متى أصبح الحب من السخافات؟..منذ أن ولد الناس على مجتمع كهذا؟..فاعتقادهم أن الحب في سن المراهقة سخافة..وفي الرشد قلة حياء..وفي الشيخوخة خرف!.. إذا متى سيكون هناك حرية في الحب؟..الجواب.. حين يكون الناس كلهم رجالاً!.. طبعاً هذا بالنسبة للمجتمع (المخنوق)!!
...
أصبحت صمود تعتكف في غرفتها.. كرهت التواجد في المكان الذي تكون فيه زوجة عمها وابنها (محمد).. أخذت تقضي وقتها في الحاسب الآلي أو تلهي نفسها بالوقوف أمام المرآة والغناء بصوتها الشبه مزعج!..وبينما كانت تنظم كتبها المدرسية طرق الباب.. دخلت جدتها (أمينة) وقالت:
لا أظن أن لهذا الاختباء فائدة! فلا أحد يستطيع أهانتك وأنا هنا.. هيا لنتناول العشاء معهم.. أخبرني عمك عادل بأنه لا يحبذ الأكل وأنت حبيسة هنا في غرفتك.. عملت صمود على رغبة جدتها.. ومع أنها لن ترفع عينها من الصحن خوفاً من نظرة زوجة عمها لها إلا أن حبها لذلك العم واحترامها له جعلها تبدو طبيعية أمامهم.
...
بدأت عطلة الصيف.. الكل كان لديه خطط.. البعض منهم سيسافر والبعض الآخر سينظم إلى النوادي.. والبعض لا شيء!
أما صمود فهي معلقة..لا تدري كيف ستقضي إجازتها.. كم تمنت أن تسافر.. لكنها رفضت الذهاب مع عمها إلى أمريكا لأنها كانت واثقة أن زوجته لن ترغب بذلك مع إن ابنها تمنى بشدة رفقة ابنة عمه.. قبلت بتمضية وقتها مع جدتها أمينة..فالكرامة أغلى من أي شيء..
وبينما كانت تشاهد التلفاز..والكل منهمك بترتيب أغراضه وتجهيز عدة السفر.. رن الهاتف..أجابت.. وما أن سمعت صوت الهاتف..ذرفت دموع فرحتها..لم تتوقع أي اتصال من والدها..اعتذر الوالد عن غيابه وأخبرها أنه يود تمضية عطلة الصيف معها في أي مكان تريده لكي يعوضها عن غيابه..لم تشتكي..ولم تطلب شرحاً..ولم ترد سماع الأعذار.. فقد كانت تلك اللحظة من أجمل اللحظات.. وعودة غائبٍ عزيز تساوي الدنيا بما فيها..
حين حضر لأخذها كانت علامات فرحتها واضحة على محياها.. كم تغيرت ملامح ذلك الأب..أصبح وجهه شاحباً..مترهل البشرة..وبداية الشيب ظاهرة عليه..
في الطريق وعلى الرغم من إعياءه وتعبه أخذ يحدثها عن حياته التي بدأت بالمتاعب وانتهت بها أيضاً..أخبرها أيضاً عن طلاقه من أمها.. وكم كان مجبراً على ذلك.. حدثها عن كل شيء وكيف أن الزمن غيره وجعله يشعر أن لا فائدة منه الآن بعد أن شاب شعره.. هي أيضاً..أخذت تحدثه عن حياتها..عن عمها.. وزوجته.. وابنه.. عن جدها وجدتها حتى غلبها النعاس بعد أن أفرغت طاقتها في الحديث وكأنها تتكلم لأول مرة.. لم تكتمل الرحلة.. فالسيارة التي أخذت تلف يمنةً ويسرى وسائقها الذي بدا كالثمل من شدة تعبه وإعياءه لم تكمل سيرها بل انتهت بحادث مريع..
تحطمت بالكامل..
ولم يسلم جزء منها..
الموت لا يعيقه شيء.. ولا ينتظر شيء.. ولا يخشى شيء..
...
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)